في ضوء التحرك العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم، من الجيد أن الولايات المتحدة تبرأت من مبدأ مونرو. ففي عام 1823، أعلن الرئيس جيمس مونرو سياسة مفادها أن أميركا اللاتينية منطقة خاضعة لنفوذنا وليس لنفوذ أوروبا، لعرقلة القوى الأوروبية من التدخل العسكري والسياسي في شؤون الدول الناشئة في القارة. وعملت الولايات المتحدة بمبدأ مونرو، بالإضافة إلى ما أملته ضرورات الحرب الباردة لتبرير بعض تدخلاتها هناك في كوبا وبنما ونيكاراجوا وشيلي وجرينادا وجمهورية الدومينكان والقائمة طويلة. لكن كما حاول الرئيس الأميركي أوباما أن يشير إلى الرئيس الروسي بوتين، فإن هذا هو القرن العشرين وقد ولى عصر الدول التي يكون لها فيه نطاق مصالح. لكن بالنسبة للولايات المتحدة فإن مبدأ مونرو ميراث لم يعف عليه الزمن تماماً. والحقيقة أن الولايات المتحدة لم تعلن وفاة المبدأ إلا في نوفمبر الماضي عندما قال وزير خارجيتها كيري في كلمة أمام منظمة الدول الأميركية، إن «عصر مبدأ مونرو انتهى». وما بين إعلان المبدأ والتبرؤ منه 190 عاماً. وأنا أقول كل هذا لألقي الضوء على تحرك روسيا في منطقة القرم. وهذا ليس اقتراحاً بأنه يجب على الحكومة الأميركية أن تمتنع عن فرض عقوبات على روسيا لإرسال قواتها إلى أوكرانيا وألا تساعد أوكرانيا اقتصادياً وألا تدعم مسعاها للانضمام إلى أوروبا. بل اقترح أنه بحسب الأعراف المرعية من القوى العظمى، والولايات المتحدة من ضمنها طبعاً، فإن تحرك روسيا في القرم يجب ألا يكون مفاجأة كبيرة. فالداعي إلى الحرب لدى بوتين ربما يكون من إنتاجه إلى حد كبير، لكن الشيء نفسه يتعلق بشن بوش الابن الحرب على العراق. فصقور الولايات المتحدة المتحفزون دوماً، هؤلاء السياسيون والخبراء الذين دقوا طبول الحرب للتدخل في العراق وهم ينتقدون الآن أوباما لعدم إبدائه ما يكفي من العداء دفاعاً عن أوكرانيا، يتعين عليهم أن يقدموا لنا تفسيراً لسبب أن يقتصر علينا وحدنا مبدأ «الحرب الوقائية» الذي يخدم أغراضاً ذاتية تماماً والذي استخدموه لتبرير مغامرتنا في العراق. فقد قال بوتين إن المؤسسات العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم كانت مهددة من الثوريين الأوكرانيين. وعندما تحتاج القوة تهديداً لتبرر عملها فإنها تجد دائماً هذا التهديد. وعلاوة على هذا، ووفقاً لمعايير مبدأ مونرو، فتحرك روسيا داخل القرم يبدو طبيعياً. وبجانب تهديد قاعدتها البحرية، أشارت روسيا إلى أوكرانيين في القرم يكادون يكونون من المواطنين الروس. فقد أقر البرلمان الأوكراني الجديد في الساعات الأولى من توليه صلاحيات واسعة تشريعاً يحظر استخدام اللغة الروسية في المؤسسات الحكومية، رغم أنها اللغة الأم لكثير من الأوكرانيين في شرق البلاد. وتستطيع روسيا أيضاً أن تدعي بأنها كانت ترد على تهديدات جغرافية استراتيجية. فعلى مدار العقدين الماضيين، حتى أثناء فترة الرئيس المؤيد للغرب بوريس يلتسين، توسع حلف شمال الأطلسي حتى حدود روسيا وربما تسبب هذا في أن يجعل روسيا تشعر بأنها أصبحت أقل أمناً، مما تسبب في شعور أوروبا الشرقية بالأمن. والحلف لا يمكن وصفه كتكتل ذي إرادة. فسواء أكان هناك «الناتو» أم لا، فقد اضطرت أوروبا على مضض لتقديم بعض القوات للحفاظ على صربيا مخافة أن يبتلعها الجيران. وتستطيع روسيا أن تجادل بشكل مبرر بأن القرم التي طالما كانت مقراً لأسطول البحر الأسود الروسي وبها البيوت الصيفية التي يقضي فيها سكان موسكو عطلاتهم، لم يجر ضمها لأوكرانيا إلا عام 1954 بناءً على نزوة من الرئيس السوفييتي نيكيتا خروشوف، وهي في الحقيقة روسية أكثر منها أوكرانية. وحتى لو انتهى الحال بمعظم سكان القرم بدعم التدخل الروسي، فإن أعمال بوتين تنتهك الأعراف التي يجب على الدول الالتزام بها، مثل احترام السيادة والاستقرار، وتجنب إثارة القلاقل، حتى لو كان الكثير من الدول، بما فيهم الولايات المتحدة، تحترم هذه الأعراف نظرياً فقط وليس في مجال الممارسة. وهذا هو السبب الذي يوجب على روسيا أن تدفع ثمناً في صورة عقوبات اقتصادية ودبلوماسية. لكن على الأميركيين أن يدركوا أننا ندفع ثمناً نحن كذلك عندما ننتهك هذه الأعراف. فالإعجاب الذي كان يكنه لنا كثيرون تضرر كثيراً بسبب الحرب في العراق كما تضرر لفترة طويلة في أميركا اللاتينية بسبب تدخلنا في شؤون دول زعمنا أنها في نطاق نفوذنا. وكما دفعنا ثمناً، سيدفع بوتين ثمناً كذلك، فاتحاده الأوراسي الاقتصادي إما سيولد ميتاً أو سيعيش تحت تهديد السلاح. والاتحاد عبارة عن إمبراطورية صغيرة متداعية وكئيبة تحفها من أحد الجوانب أوروبا الأكثر ديمقراطية، وفي الجانب الآخر توجد الصين الأكثر حيوية. وكما أن الولايات المتحدة لم تفز إلا بعدد قليل من الأصدقاء بسبب مبدأ مونرو، فإن نهج بوتين قد لا يُكسبه إلا عدداً أقل حتى من الأصدقاء. ----- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»